كاتب الرسالة وتاريخ كتابتها ومكانها

صاحب الرسالة هو بطرس، «رسول يسوع المسيح»، على ما وردَ في الرسالة (١ بط ١/ ١) والشيخ «الشاهد لآلام المسيح» (١ بط ٥/ ١). كتب الرسالة بيد «سلوانس» (١ بط ٥/ ١٢)، وكان بجانبه مرقس «ابنه» (١ بط ٥/ ١٣). أكّد التقليد نسبة الرسالة إلى الرسول بطرس، وقد شهدت بذلك رسالة بطرس الثانية، وهي من آخر ما كُتب من مؤلّفات العهد الجديد. وأشار بعدئذٍ إيريناوس وطرطليانس وإقليمنضس الإسكندريّ إلى بطرس إشارتهم إلى صاحب هذه الرسالة. يُضاف إلى ذلك أنّ بابياس في أوّل القرن الثاني، على ما ذكر المؤرّخ أوسابيوس، جعل علاقة وثيقة بين الرسول ومرقس، كاتب الإنجيل الثاني (راجع أيضًا رسل ١٢/ ١٣).

ولكنّ بعض أهل الاختصاص شكُّوا في صحّة نسبة الرسالة إلى بطرس. وهذه أهمّ البراهين التي يأتون بها، والردود التي يمكن أن يُردّ بها عليهم:

– اللغة اليونانيّة هي من الجودة ما يجعل من العسير نسبتها إلى بطرس الصيَّاد الجليليّ. ولا تُحلّ المشكلة، إذا قيل إنّ بطرس كتب ما كتب بالآراميّة، ثمّ كلّف بعضهم (سلوانس ١ بط ٥/ ١٢) نقله إلى اليونانيّة، لأنّه يُعسر، في هذه الحالة، عرض السبب الذي جعل الشواهد المقتبسة من العهد القديم والواردة في الرسالة تؤخذ كلّها، بلا استثناء، من الترجمة اليونانيّة بنفسها. ليس هذا البرهان قاطعًا، فقد لُفتَ النظر من جهة إلى أنّ اليونانيّة كانت دارجة الاستعمال في فلسطين أيّام يسوع، كما تثبت ذلك وثائق اكتُشفت حديثًا. فمن المعقول جدًّا أن يكون بطرس قد عرفَ هذه اللغة، ولربّما استطاع بطرس، من جهة أخرى، الاعتماد على سلوانس في إنشاء مؤلّفه، الأمر الذي يوضّح سبب جودة الإنشاء.

– لُفتَ النظر أيضًا إلى التوازي المدهش القائم بين بعض معاني الرسالة وتعليم بولس اللاهوتيّ. نقتصر على ذكر بعض الأمثلة: إستعمال الاستعارة المأخوذة من العهد القديم، وهي حجر العثار (١ بط ٢/ ٤-٨؛ روم ٩/ ٣٢-٣٣) والحثّ على الخضوع للسلطات (١ بط ٢/ ١٣-١٧؛ روم ١٣/ ١-٧) واستعمال العبارة «في المسيح» (١ بط ٣/ ١٦؛ ١ بط ٥/ ١٠-١٤)، أفلا يجعل كلام كالذي وردَ في غل ٢/ ١١-١٤ كلَّ تأثير لفكر بولس في فكر بطرس أمرًا بعيد الاحتمال تمامًا؟ الحقّ يقال إنّ وجوه الشبه التي يمكن أن يؤتى بها بين رسالة بطرس الأولى ومؤلّفات بولس قد تعود من غير عناء إلى الأصل التعليميّ المشترك عند الكنيسة في أوّل نشأتها، ذلك الأصل الذي استعمله كلّ من بطرس وبولس. أمّا حادثة أنطاكية التي رويت في غل ٢/ ١١-١٤ فإنّها لا تتناول خلافًا لاهوتيًّا بالمعنى الحقيقيّ بين الرسولَيْن. فما أخذ بولس على بطرس كان موقفه من حالة خاصّة، لا تعليمه اللاهوتيّ.

– لا تكشف رسالة بطرس الأولى عن أيّ معرفة مباشرة ليسوع في حياته على الأرض، كما تصفه لنا الأناجيل، ولم يتكلّم الكاتب إلّا كلامًا مجملًا على آلام المسيح وموته. وهو يغفل إغفالًا تامًّا معاني أساسيّة من تعليم يسوع: «ملكوت الله» و«ابن الإنسان»، على سبيل المثال. لو كان كاتب الرسالة بطرس وهو تلميذ قريب جدًّا من يسوع، أما كان تكلّم على وجهٍ آخر؟ أما كان ذكر ذكرًا أوضح تلك الخبرة التي اكتسبها لعيشه بجانب معلّمه؟ يُردّ على ذلك بالاستشهاد بسلسلة من فقرات الرسالة تعكس أقوالًا فاه بها يسوع (١ بط ١/ ٨؛ يو ٢٠/ ٢٩؛ ١ بط ٢/ ٢؛ مر ١٠/ ١٥ وما يوازيها ١ بط ٢/ ١٢؛ متى ٥/ ١٦؛ ١ بط ٢/ ٢٣؛ متى ٥/ ٣٩؛ ١ بط ٣/ ٩؛ لو ٦/ ٢٨؛ ١ بط ٣/ ١٤؛ متى ٥/ ١٠؛ لو٥/ ٣؛ يو ١٣/ ١٥-١٧ وراجع ١ بط ٢/ ٢٥؛ متى ٩/ ٣٠). يُضاف إلى ذلك أنّ العديد من هذه الأقوال مأخوذ من نصوص متّصلة اتّصالًا مباشرًا بشخص بطرس (على سبيل المثال، ١ بط ٥/ ٢؛ يو ٢١/ ١٥-١٧؛ ١ بط ١/ ٤ و١٣؛ لو ١٢/ ٢٣ و٣٥ و٤١). ولقد شُدِّدَ لعهدٍ قريب على ما لموضوع العبد المتألّم من شأن في الرسالة. وهذا الموضوع، الذي يعود أصله إلى سِفر أشعيا (أش ٥٢/ ١٣-٥٣/ ١٢)، ظاهر في كلّ من روايات الإنجيل (لو ٢٢/ ٣٧؛ أش ٥٣/ ١٢) وفي خطب بطرس (رسل ٣/ ١٣ و٢٦ وراجع رسل ٤/ ٢٧ و٣٠)، وفي هذه الرسالة (١ بط ٢/ ٢١-٢٥). أجل، لا ينبغي أن يبالَغ في ما لمثل وجوه الشبه هذه من مغزى حقيقيّ، لأنّ مجموعات لأقوال يسوع راجت في وقتٍ مبكّر بالكنيسة، ولكنّها تُثبت لنا في كلّ حال أنّ البرهان المعوَّل فيه على خلوّ الرسالة من ذكريات مباشرة ليسوع في حياته على الأرض برهان قابل للجدل الكثير في صحّته.

– يُقال إنّ في الرسالة تلميحًا إلى الاضطهادات الرسميّة الأولى العامّة (لا المحلّيّة فحسب) التي لا يمكن تحديد تاريخها قبل عهد الإمبراطور دوميطيانس (من ٨١ إلى ٩٦م)، أي بعد موت بطرس بوقتٍ كثير (١ بط ٤/ ١٢؛ ١ بط ٥/ ٩).

إنّ هذا الرأي أيضًا قابل للشكّ فيه. يجب على المرء أن يلاحظ، قبل كلّ شيء، أنّ التفكير الذي تعكسه الرسالة يختلف كثيرًا عن الفكر الذي في سِفر الرؤيا، وفيه تظهر الدولة المضطهدة على نحو واضح. ولا شيء من ذلك في رسالة بطرس الأولى التي لا تزال تعلّم الخضوع للسلطات، كما تعلّمه الرسالة إلى أهل رومة (١ بط ٢/ ١٣-١٧؛ روم ١٣/ ١-٧)، وهي تذكر على الخصوص ما لها من عمل إيجابيّ (١ بط ٢/ ١٤). يُضاف إلى ذلك أنّ الرسالة لا تستعمل الاصطلاحات كالاضطهاد، ولا الاصطلاحات من دعوى ومحكمة وشكوى، بل تستعمل ألفاظًا لاهوتيّة، كالتجربة والآلام التي تُعانى ظلمًا في سبيل البرّ. لا شكّ في أنّ المراد بذلك الكلام هو المضايقات والتهكّمات وسوء المعاملة والوشاية والنقمة التي أنزلها بالمسيحيّين منذ البدء مواطنوهم الوثنيّون أو أبناء دينهم الأوّلون. ولا يحول هذا الأمر البتّة دون أن تُنسب الرسالة إلى زمن على شيء من القدم، فيه كان بطرس لا يزال حيًّا.

وقصارى القول إنّ ما وردَ في الرسالة والتقليد لا تطعن فيه الاعتراضات المذكورة سابقًا طعنًا حاسمًا. من الممكن إذًا أن نقول إنّ بطرس أنشأ الرسالة حقًّا، ولربّما استعان بسلوانس (وسلوانس هو الصيغة اللاتينيّة لسيلا الوارد في أعمال الرسل (رسل ١٥/ ٢٢ و٤٠؛ رسل ١٨/ ٥ وراجع ٢ قور ١/ ١٩)). وأمّا تاريخ كتابة الرسالة فكان قبل اضطهاد نيرون بوقتٍ قليل، وبعبارة أخرى، قبل موت بطرس بوقتٍ قليل. كتب الرسول رسالته في رومة، إذا أُخذَ بتفسير كلمة «بابل» الأرجح في ١ بط ٥/ ١٣، وفيها إشارة رمزيّة إلى عاصمة الإمبراطوريّة الرومانيّة.

فنّها الأدبيّ ووحدتها وهدفها

تنبّه كثير من النقّاد للتلميحات إلى المعموديّة، وقد وردت على الخصوص في الفصول الثلاثة الأولى من الرسالة. يُضاف إلى ذلك أنّ هناك مَن لاحظَ تغييرًا في المعنى أوّله في ١ بط ٤/ ١٢. فلا تُعدّ الآلام احتمالًا ممكنًا، بل حقيقة راهنة (١ بط ٤/ ١٢؛ ١ بط ٥/ ٩ وراجع ١ بط ٢/ ٢٠؛ ١ بط ٣/ ١٤ و١٧). واعتمدَ أناس هذه الأمور فعرضوا افتراضات مختلفة في فنّ الرسالة الأدبيّ ووحدَتها، وأبرزوا على نحو خاصّ أصلها الطقسيّ. رأى بعضهم أنّها تورد رتبة خاصّة بالمعموديّة (١ بط ١/ ٣-٤/ ١١) أضيف إليها مؤلَّف كُتِبَ بعدئذٍ، والمراد منه تشديد المعمَّدين في الإيمان (١ بط ٤/ ١٢-٥/ ١٤). وهناك آخرون لا يولون الفروق الملاحَظة في ما بين ١ بط ١/ ٣-٤/ ١١ و١ بط ٤/ ١٢-٥/ ١١شأنًا كبيرًا، ويعدّون ١ بط ١/ ٣-٥/ ١١ عظة للمعموديّة أُنشئت في صيغة رسالة بإضافة ١ بط ١/ ١-٢؛ ١ بط ٥/ ١٢-١٤. وهناك، آخر الأمر، مَن رأى فيها رتبة من رُتَب أسبوع الفصح.

غير أنّ هذه الافتراضات تلقى عدّة اعتراضات، فإنّ وحدة اللغة والإنشاء في الرسالة تجعل من غير المحتمل وجود جزءَين من أصل مختلف. يرتبط توجيه الرسالة وخاتمتها ارتباطًا واضحًا بمتن الرسالة («الغرباء»: ١ بط ١/ ١؛ ١ بط ٢/ ١١ وراجع ١ بط ١/ ١٧ والإرشاد وهو موضوع الرسالة: ١ بط ٥/ ١٢؛ ١ بط ٢/ ١١). يُضاف إلى ذلك أنّ الشكر (١ بط ١/ ٣-٩) وشرعة الأخلاق المسيحيّة (١ بط ٢/ ١٣-٣/ ٧) يؤيّدانِ اعتقادَ أنّ رسالة بطرس الأولى صُمِّمت حقًّا لتكون رسالة. أجل لقد استغرب بعضهم أنّه لم يرد فيها إشارات شخصيّة تتناول الكاتب والذين كُتبت إليهم، ولكنّ ذلك يفسِّر أنّ الرسالة صدرت عن رجل هو صاحب سلطة في الكنيسة، ولكنّه لم يكن منشئًا للجماعات التي وجّه الرسالة إليها. وأمّا تغيير وجهة النظر الذي لوحظ أوّله في ١ بط ٤/ ١٢، فلا ينبغي أن يبالَغ في شأنه، لأنّ الآلام تُعدّ آلامًا حاضرة في ١ بط ١/ ٦، وأنّ العدد الكبير من المحاولات التي أُجريت لإعادة تأليف رتبة أو عظة عماديّة، بالاستناد إلى نصّ الرسالة، يُثبت ضعف هذا الافتراض إلى حدٍّ بعيد. يُضاف إلى ذلك أمران، فليس في الرسالة ذكر واضح لحفلة المعموديّة إلَّا مرّة واحدة، ولكن في فقرة تتناول أصول التوافق بين العهدين القديم والجديد (١ بط ٣/ ٢١)، وذلك يخالف ما وردَ في نصوص مثل روم ٦/ ٣-٤؛ قول ٢/ ١٢؛ طي ٣/ ٥، فضلًا عن أنّه ليس في نصّ الرسالة أيّ أثر لتدرّج يمكّن من إعادة إظهار مراحل حفلة العماد. فإنّ الفعل اليونانيّ الذي فيه تلميح إلى الولادة الثانية قد استُعمل في ١ بط ١/ ٣.

فلا سبيل إذًا إلى الشكّ في طبيعة رسالة بطرس الأولى ولا في وحدتها. الرسالة راسخة الأصل في تقليد للتعليم المسيحيّ كان عامًّا في الكنيسة القديمة، وقد حدّدت الخاتمة هدفها تحديدًا دقيقًا (١ بط ٥/ ١٢) وهو أن يحثّ ويشدّد في الإيمان مسيحيّين كانوا في خطر أن تفتر همّتهم، وقد امتحنت مختلف الشدائد عزيمتهم. ولذلك استند الكاتب إلى تعاليم كان المسيحيّون قد سمعوها عند اهتدائهم وتلقّيهم المعموديّة.

مضمون الرسالة

لا يمكن عرض تصميم منطقيّ للرسالة، ويعود ذلك إلى ما لهذا المؤلّف من طابع خاصّ، وفيه لا تنفكّ الإرشادات تتشابك هي والأمور التعليميّة التي يُراد منها تعليلها وتأييدها… جُلّ ما يمكن قوله إنّ هناك تدرّجًا في الإرشاد، إذا روعي أنّ قرب وقوع التهديد يظهر بوضوح في ١ بط ٤/ ١٢ وما بعده. يمكن عرض مضمون الرسالة على الوجه هذا:

– التوجيه والتحيّة: ١ بط ١/ ١-٢.

– الشكر (على طريقة البركات اليهوديّة: راجع أف ١/ ٣-١٤) ويمتدّ بتفكيرٍ في الكشف عن تدبير الخلاص: ١ بط ١/ ٣-١٢.

الإرشاد الأوّل: موجّه إلى مسيحيّين من أصلٍ وثنيّ، وفيه يُدعون إلى أن ينبذوا سيرتهم الماضية نبذًا مطلقًا: ١ بط ١/ ٣-٢/ ١٠.

– الدعوة إلى أن يحيوا في القداسة بداعي ذلك الرجاء الذي اكتسبه لنا المسيح: ١ بط ١/ ١٣-٢١.

– بعض النصائح التي تتناول الحياة الجماعيّة: ١ بط ١/ ٢٢-٢/ ٣.

– أساس العقيدة: إنّ الله لم يَختَر المسيحيّين ليكونوا من الهيكل الروحيّ القائم أساسه على المسيح، إلَّا ليُشيدوا بآيات الذي دعاهم إلى النور: ١ بط ٢/ ٤-١١.

الإرشاد الثاني: ١ بط ٢/ ١١-٢/ ١٢.

إعلان عامّ موضوعه السلوك الذي يجب على المسيحيّين أن يسلكوه بين الوثنيّين: ١ بط ٢/ ١١-١٢. واجبات المسيحيّين بحسب أحوالهم: واجباتهم في علاقاتهم بالسلطات وواجبات الخدم في علاقاتهم بأسيادهم وواجبات الزوجَيْن المتبادلة: ١ بط ٢/ ١٣-٣/ ٧.

– دعوة أخرى إلى المحبّة الأخويّة: ١ بط ٣/ ٨-١٢.

الإرشاد الثالث: ١ بط ٣/ ١٣-٤/ ١١.

الدعوة إلى الثقة ردًّا على عداء العالم: ١ بط ٣/ ١٣-١٧.

أساس هذه الثقة: الانتصار التامّ الذي ناله المسيح: ١ بط ٣/ ١٨-٢٢.

ما ينتج عمليًّا من العقيدة التي تأتي من المسيح، أي الكَفّ عن الخطيئة: ١ بط ٤/ ١-٦.

التيقّظ في الحياة الجماعيّة: ١ بط ٤/ ٧-١١.

الإرشاد الرابع، والداعي إليه هو أنّ الاضطهاد قريب: ١ بط ٤/ ١٢-١٩.

إرشادات خاصّة: ١ بط ٥/ ١-١١.

التذكير بواجبات رؤساء الجماعة: ١ بط ٥/ ١-٤.

التواضع والتيقّظ: ١ بط ٥/ ٥-١١.

الخاتمة: ١ بط ٥/ ١٢-١٤.

الحياة المسيحيّة بحسب رسالة بطرس الأولى

كثيرًا ما أُغفلَ ما لرسالة بطرس الأولى من قيمة خاصّة، في حين أنّ هذه القيمة تظهر ظهورًا واضحًا، حالما يُنظر إلى الأوضاع التي استهدفتها الرسالة. فلم يكن شأن كاتبها أن يضع قواعد الإيمان، وقد علَّمها القرّاء الذين خاطبهم في رسالته (١ بط ١/ ١٢)، بل كان شأنه بالأحرى أن يحثّ على الثبات تلك الجماعات التي كانت تواجه مصاعب تتفاقم على الثبات، معتمدة على الرجاء الذي بُشّرت به. ولذلك دعا الرسول قرّاءه إلى رفع أنظارهم نحو المسيح، لكي يدركوا (أو يستعيدوا إدراكهم) ما فيه من قدرة على منح الحياة الجديدة (١ بط ١/ ٣؛ ١ بط ٢/ ٢). يُضاف إليه أنّه شدَّدَ على ما للرجاء الممنوح من صفة الانتصار، وهو ينبوع نشاط مستمرّ وبهيج في الحياة اليوميّة.

أ) التأصّل في عمل المسيح: إنّ الكاتب على يقين من أنّ الله اختار في المسيح قرّاء رسالته، فأصبحوا من شعبه (١ بط ١/ ٢؛ ١ بط ٢/ ٩). وقد أراد مع ذلك أن يسير بهم إلى تأصّل أعمق في العمل الذي أتمّه معلّمهم. وهذا ما عناه لمّا ذكَّرهم بذبيحة المسيح (١ بط ١/ ٢؛ ١ بط ١/ ١٩) وآلامه (١ بط ٢/ ٢١-٢٤)، ومراده أن يقتفوا آثاره (١ بط ٢/ ٢١). وكذلك شدَّدَ في كلامه على انتصار المسيح، وهو انتصار يمتدّ إلى جميع دوائر الكون (١ بط ٣/ ١٨-٢٢)، ولا يقف الموت نفسه عقبة في سبيله (١ بط ٤/ ٦). فعلى المؤمنين أن يبقوا من بعد اليوم مرتبطين بذلك الذي هو حجر الزاوية، وركن الجماعة الركين (١ بط ٢/ ٤-٨).

نذكر أنّ مسيحانيّة الرسالة هي أقرب إلى المسيحانيّة التي عُرضت في أوّل أعمال الرسل (وعلى الخصوص في خطب بطرس) منها إلى المسيحانيّة عند بولس (راجع موضوع عبد الله المتألّم، بحسب الشواهد الواردة أعلاه ودور المعموديّة: رسل ٢/ ٣٨-٤٠؛ ١ بط ٣/ ٢١ وراجع أيضًا رسل ٢/ ٣١؛ ١ بط ٣/ ١٨). وجدير بالذكر أيضًا أنّ في الرسالة صدى عدّة شهادات إيمانيّة أو أناشيد للجماعة المسيحيّة (راجع على سبيل المثال ١ بط ٢/ ٢٢-٢٤؛ ١ بط ٣/ ٢٢؛ ١ بط ٤/ ٥).

ب) الرجاء الحيّ: إنّ موضوع الرجاء مهمّ منذ أوّل الرسالة (١ بط ١/ ٣ و١٣ و٢١). يُنظر إلى هذا الرجاء من جهة مصدره وهدفه ونتائجه. أمّا من جهة مصدره فهو ليس ثمر مخيِّلة الناس أو جهودهم، بل هبة مجّانيّة وهبها الله لهم بقيامة يسوع من بين الأموات (١ بط ١/ ٣) (ويلاحَظ الرباط الوثيق الذي يربط القيامة بتحقيق الخلاص: ١ بط ١/ ٢؛ ١ بط ٣/ ٢١). أمَّا من جهة هدفه فإنّه موجَّه إلى الملكوت الآتي، إلى الميراث البريء من الفساد، المضمون للمؤمنين، إلى الساعة التي فيها يتحوّل الإيمان إلى المشاهدة والتي فيها ينال شعب الله، على وجهٍ تامّ مطلق، الخلاص الذي يُمنح في يسوع المسيح (١ بط ١/ ٤ و٧ و١٣). أمَّا من جهة نتائج الرجاء من أجل حياة المؤمنين الحاضرة، فإنّه أبعد من أن يكون على مثال الرجل المتصلّب أو المستكين المستسلم. فهو، على نحو ما، القوّة الدافعة في سيرة جديدة (١ بط ١/ ١٣-١٥). ويمكِّن المؤمنين من الجهاد بفرح (١ بط ١/ ٦)، لا على الرغم ممّا يُصيبهم من المحنة (وهي تناقضه للوهلة الأولى على ما يبدو)، بل في وسط المحنة (١ بط ٤/ ١٢-١٣). لا يكفّ العالم عن محاولته في هدم هذا الرجاء، ولكن يجب على المؤمن أن يكون مستعدًّا لأن يردّ برباطة جأش على مَن يطلب منه دليلًا على تعلّقه به (١ بط ٣/ ١٥-١٦).

ج) أداء الشهادة في حياة كلّ يوم: تشدّد الرسالة على ما دعيَ إليه شعب الله. فقد اختارَ الله أناسًا ليخدموه وينشروا معرفة أعماله في كلّ مكان من الأرض. ولذلك يلازم موضوعُ اختيار الله في رسالة بطرس الأولى موضوعَ كهنوت المؤمنين (١ بط ٢/ ٥؛ ١ بط ٢/ ٩ وراجع أيضًا روم ١٢/ ١)، والخدمة المطلوبة منهم تُقام أوّلًا في الكنيسة (١ بط ١/ ٢٢؛ ١ بط ٢/ ١-٥؛ ١ بط ٣/ ٨-١٢؛ ١ بط ٤/ ٧-١١؛ ١ بط ٥/ ١-٧). يضطلع الشيوخ بمسؤوليّة خاصّة لحفظ الجماعة في العمل بالمحبّة الأخويّة (١ بط ٥/ ١-٤)، ولكن هناك أيضًا جميع الواجبات التي تتناول مختلف مظاهر الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والعائليّة (١ بط ٢/ ١١-٣/ ٢٧). إنّ الإرشادات في هذه الموضوعات قريبة من القواعد الخلُقيّة الواردة في أدب الدنيا بذلك الزمان أو في الدين اليهوديّ. ولكنّها تتلقّى توجيهًا ومضمونًا جديدَين، لأنّهما تُناطان بالربّ (١ بط ٢/ ١٣) وتراعيان حرمة كلّ امرئ حتّى أوضَع الناس. يبدو أنّ تلك الإرشادات لم تتعرّض لما في الأنظمة الاجتماعيّة القائمة في ذلك الزمان من أمور غير سويّة، فتحتاج إلى الإصلاح، ولا يظهر فيها ما يدعو إلى الثورة. ولكنّها كانت تدلّ المؤمنين إلى حدٍّ ما على النهج الذي يجب عليهم أن يسلكوه، وهو أن يحملوا دعوة إلى الرجاء في محبّة الربّ، فيبدّلوا حالة الإنسان في داخله، فيمكّنوا من إجراء ما يُحتاج إليه من إصلاحات في الحياة الاجتماعيّة. يُضاف إلى ذلك أنّ الرسالة على العموم لا تُظهر أيَّ عداءٍ كان للعالم الوثنيّ، بل تشدِّد على مسؤوليّة شعب الله في علاقاته بذلك العالم الوثنيّ. إذ على المؤمنين في جميع الأحوال، حتّى أعسرها، أن يتصرّفوا تصرّفًا يكون فيه نور للوثنيّين (١ بط ٢/ ١١-١٢؛ ١ بط ٣/ ١٣-١٧).

تذكّر الرسالة مسيحيّي جميع الأزمنة بما يدعو إليه الرجاء الحيّ الذي هو رجاؤهم في يسوع المسيح. إنّه يدعو إلى الاعتصام بثقة بالربّ الظافر وإلى النشاط البنّاء في خدمته.