كاتب الرسائل
يكاد أن يكون ثابتًا أنّ كاتب الرسائل الثلاث واحد. فإنّ أزمة واحدة تنعكس في كلّ من الرسالة الأولى والثانية، لا بل في الثالثة أيضًا على وجهٍ غير مباشر. إنّ الرسائل الثلاث يشبه بعضها بعضًا بالفكر واللغة والإنشاء شبهًا شديدًا، حتّى إنّه يعسر أن تُنسب إلى كتبة مختلفين. هذه بعض العبارات المميّزة: «إنّ كثيرًا من المتنبّئين (أو المضلّين) انتشروا في العالم» (١ يو ٤/ ١؛ ٢ يو ١/ ٧) «ويسلكون سبيل الحقّ» (٢ يو ١/ ٤؛ ٣ يو ١/ ٣) و«أحبَّ في الحقّ» (٢ يو ١/ ١؛ ٣ يو ١/ ١؛ وراجع ١ يو ٣/ ١٨). ليست وصيّة المحبّة «وصيّةً جديدة»، بل وصيّة «أخذناها منذ البدء» (١ يو ٢/ ٧؛ ٢ يو١/ ٥) «وحظيَ بالآب والابن» ٢ يو ١/ ١ أو «حظيَ بالآب أيضًا» (١ يو ٢/ ٢٣).
إنّ معرفة هويّة الكاتب على بساط البحث، فقد خالف ما فعل بولس، فلم يذكر اسمه قطّ. وفي ٢ يو ١/ ١؛ ٣ يو ١/ ١، وصفَ نفسه بأنّه «الشيخ». لا يدلّ هذا اللقب على رئيس صاحب سلطة في جماعة من الجماعات. بل يدلّ بحسب العادة الجارية في كنائس آسية (بابياس وإيريناوس) على رجل كان في عداد جماعة تلاميذ الربّ أو عرفهم أيضًا. كان إذًا رجلًا له مكانة عظيمة لأنّه من شهود نشأة التقليد الرسوليّ. وقال الكاتب من جهةٍ أخرى إنّه شاهد عيان من شهود حياة يسوع (١ يو ١/ ١-٣؛ ١ يو ٤/ ١٤). إنّ مختلف الإشارات هذه تؤيّد الرأي التقليديّ الذي يرى في هذا الكاتب الرسول يوحنّا، فإنّ الشهادات القديمة تجمع على نسبة الرسالة إليه. وليس الأمر كذلك في نسبة الرسالتين الصغيرتين لسبب واحد وهو لقب «الشيخ». ففي القرنين الثاني والثالث، رأى أهل بعض البيئات في هذا الكاتب امرئًا اسمه «يوحنّا الكاهن»، غير الرسول يوحنّا (مع أنّ كلمة كاهن تعني «الشيخ»). بيدَ أنّ تقليد أفسس القديم لم يعرف سوى يوحنّا واحد هو تلميذ الربّ.
الخلفيّة الأدبيّة والتعليميّة
يبدو للوهلة الأولى أنّ تأثير العهد القديم في رسائل يوحنّا يقتصر على الشيء القليل، لأنّ يوحنّا لا يذكره صراحةً إلَّا مرّة واحدة (راجع ١ يو ٣/ ١٢). غير أنّ في الرسائل بضع عبارات مأخوذة من الكتاب المقدّس: «أمين عادل» (١ يو ١/ ٩) و«عرَفَ الله» (١ يو ٢/ ٣ و٤ و١٤ إلخ…) و«كفّارة للخطايا» (١ يو ٢/ ٢؛ ١ يو ٤/ ١٠) و«خطيئة تؤدّي إلى الموت» (١ يو ٥/ ١٦) إلخ.. ولكنّ وجود العهد القديم يجب البحث عنه في الرسالة الكبرى على الخصوص، في الموضوع الذي تتناوله، وهو موضوع مشاركة الله «ومعرفة الله». يبدو أنّ معرفة الله، على ما وردَ في عدّة فِقَر، ليست إلّا معرفة الله التي وصفها إرميا بأنّها علامة العهد الجديد المميَّزة (راجع ١ يو ٢/ ٣ و١٣ و٢٠ و٢٧؛ ١ يو ٣/ ٩؛ ١ يو ٥/ ٢٠-٢١).
ولكنّ أوثق صلات الكاتب، من جهة اللغة، تمتّ إلى الديانة اليهوديّة في فلسطين، ولا سيّما إلى التيّار التي تمثّله مؤلّفات قمران. فإنّ كلمات أو عبارات مثل «سارَ في الحقّ» (١ يو ١/ ٦) و«روح الحقّ» (١ يو ٤/ ٦) و«الإثم» (١ يو ٣/ ٤) وذلك التضادّ الشديد بين الله والعالم (١ يو ٤/ ٤-٦) والنور والظلام (١ يو ١/ ٦-٧؛ ١ يو ٢/ ٩-١١) والحقّ والكذب (١ يو ٢/ ٢١ و٢٧)، قد وردت أيضًا في قانون قمران. ليست ثنائيّة يوحنّا ميتافيزيقيّة أو كَونيّة، كما الأمر هو في العرفان، بل هي خلُقيّة، وتتناول الحياة الأخرى، لأنّها تكمن في قلب الإنسان. وهو ضعيف خاطئ، ولكنّه قابل للتوبة وقابل، بسبب ذلك، للاتّحاد بالله. إنّ الرسائل، بما تجعل للمعرفة من شأن مضاعف، تلزم تيّار الدين اليهوديّ الرؤيويّ الحِكَميّ الذي يُعنى، على الخصوص، بالكشف عن الأسرار. ولكنّ الكاتب لا ينفكّ يفسّر دائمًا أبدًا تلك العبارات المأخوذة من الدين اليهوديّ تفسيرًا جديدًا.
وهناك تأثير آخر، وهو الأعظم شأنًا، وقد أظهرته الدراسات الحديثة على نحو خاصّ. إنّه تأثير التقليد المسيحيّ في أوّل نشأته، ولا سيّما التقليد العائد إلى تعليم المعموديّة. ألحّ يوحنّا في تذكير قرّائه «بما سمعوه» (١ يو ١/ ١ و٣ و٥؛ ١ يو ٢/ ٧ و١٨ و٢٤؛ ١ يو ٣/ ١١؛ ١ يو ٤/ ٣؛ ٢ يو ١/ ٦). وكثيرًا ما ذكّر صراحة «بالبدء»، أي بالتعليم المسيحيّ الأوّليّ (١ يو ١/ ١؛ ١ يو ٢/ ٧ و١٣ و١٤ و٢٤؛ ١ يو ٣/ ١١؛ ٢ يو ١/ ٥ و٦) وقد توقّع من المسيحيّين أن يعترفوا بخطاياهم (١ يو ١/ ٩) ودعاهم إلى الشهادة بإيمانهم بيسوع ابن الله المتجسّد (١ يو ٢/ ٢ و٣؛ ١ يو ٤/ ٢ و١٥؛ ٢ يو ١/ ٧). هذه موضوعات عائدة إلى المعموديّة. غير أنّ الكاتب يتناول هذه الموضوعات، مسيحيّة كانت أم يهوديّة، ويؤوِّنُها ليصف بها حالة المؤمنين الحاضرة، في النزاع القائم بينهم والعالم.
الرسالة الأولى
لا يسهل تحديد فنّ هذه الرسالة الأدبيّ. فلمّا كانت خالية من كلّ توجيه أو خاتمة، ولا ذكر فيها لأيّ اسمٍ كان، فإنّه من العسير أن تُعدّ مجرّد رسالة، بل ولا رسالة موجّهة إلى جماعة محلّيّة (كما كان شأن معظم رسائل بولس). غير أنّ الكاتب دعا قرّاءه «يا بَنيَّ» (راجع ١ يو ٢/ ١). وكثيرًا ما ذكَّرهم بالإيمان المشترك، وحثّهم على الثبات، فكانت له إذًا سلطة دينيّة عليهم. يبدو أنّ الرسالة وُجّهت إلى جملة من الكنائس تهدّدها بدعة واحدة، ويُرجّح أنّ تلك الكنائس هي كنائس من إقليم آسية، كما وردَ في التقليد القديم، وما كتبَ يوحنّا إليهم هو نوع من الرسالة الرعائيّة الهادفة إلى تأييدهم وهدايتهم في معركة الإيمان.
أمّا بنية الرسالة فقد اختلفت الآراء فيها. وتزيد المشكلةَ تعقيدًا قلّةُ ما فيها من أدوات الوصل، ولكن يظهر فيها ما يمكِّن من الاستدلال إلى تصميم، وهو أنّ الكاتب يعود إلى الموضوعات نفسها عدّة مرّات في الترتيب نفسه. يتوسَّع الكاتب في فكره وفقًا لحركة لولبيّة حول موضوع أشبه بنقطة الدائرة، وهو مشاركتنا لله، وقد وردَ صراحةً في المقدّمة (١ يو ١/ ٣) وعبَّرَ عنه بألفاظ مماثلة في آية الخاتمة (١ يو ٥/ ١٣). أراد الكاتب أن يبعث في المسيحيّين يقينًا هو أنّ الحياة الأبديّة هي لهم هم المؤمنين. وقد أوضح لهم، ردًّا على أهل البدع، ما هي الشروط التي بها ينالون هذه الحياة وما هي المقاييس التي تُعرف بها.
ليست الرسالة كلّها سوى وصف هذه المقاييس وهذه الشروط العائدة إلى الحياة المسيحيّة الصحيحة، في سلسلة من اللوحات المتحاذية، يزداد فيها الوضوح من لوحة إلى لوحة.
المقدّمة: وفيها عرض الموضوع الرئيسيّ (١ يو ١/ ١-٤).
١) العرض الأوّل لمقاييس مشاركتنا الله (١ يو ١/ ٥-٢/ ٢٨). يُنظر هنا إلى المشاركة كما يُنظر إلى الحصول على نصيبٍ من نور الله. وعلامة هذه المشاركة:
آ) السير في النور بعد التحرّر من الخطيئة (١ يو ١/ ٥-٢/ ٢).
ب) حفظ وصيّة المحبّة (١ يو ٢/ ٣-١١).
ج) إيمان المؤمنين، ردًّا على العالم وعلى المسحاء الدجّالين (١ يو ٢/ ١٢-٢٨).
٢) العرض الثاني لمقاييس مشاركتنا لله (١ يو ٢/ ٢٩-٤/ ٦). توصف مشاركتنا لله في هذا العرض بكلمات النبوّة. والمقاييس التي يُعرف بها أبناء الله هي:
آ) عمل البرّ واجتناب الخطيئة (١ يو ٢/ ٢٩-٣/ ١٠).
ب) العمل بالمحبّة على مثال ابن الله (١ يو ٣/ ١١-٢٤).
ج) إختبار الأرواح بالإيمان بيسوع المسيح (١ يو ٤/ ١-٦).
٣) العرض الثالث للمقاييس وشروط مشاركتنا لله (١ يو ٤/ ٧-٥/ ١٢).
لا ذكر للمقاييس السلبيّة وهي اجتناب الخطيئة. أمّا المقياسان الإيجابيّان، وهما المحبّة والإيمان، فإنّ الكاتب يعود بهما إلى مصدرهما الأوّل: فإنّ المحبّة، بعد ما نُظرَ إليها حتّى الآن من وجهة إرشاديّة (١ يو ٢/ ٣-١١) ومسيحانيّة (١ يو ٣/ ١١-٢٤)، ينظر إليها هذه المرّة من وجهتها الإلٰهيّة، بكلّ معنى هذه الكلمة (راجع ١ يو ٤/ ٧-٩ و١٦). والإيمان، بعد ما وُصِفَ في الحلقتين الأولى والثانية بسيرة كنسيّة وبشهادة الإيمان (راجع ١ يو ٢/ ٢٢-٢٥؛ ١ يو ٣/ ٢٣؛ ١ يو ٤/ ٢-٦) يُعرض الآن عرض حقيقةٍ إلهيّة، أي الإيمان باسم ابن الله (١ يو ٥/ ٥ و١٠ وراجع ١ يو ٥/ ١٣):
آ) إجتناب الخطيئة يُغفل في خاتمة الرسالة.
ب) المحبّة من الله وتترسّخ في الإيمان (١ يو ٤/ ٧-٢١).
ج) الإيمان بابن الله أصل المحبّة (١ يو ٥/ ١-٢).
الخاتمة (١ يو ٥/ ١٣-٢١).
يرى بعض النقّاد أنّ تحليل الرسالة قد يمكّننا من الكشف عن عدّة طبقات أدبيّة. بل حاول بعضهم أن يفصّل فيها نصًّا قديمًا، مصدره غنوصيّ أو قمرانيّ، عن فقرات فيها شروح للإرشاد أضافها الكاتب. ولكنّ تنوّع الإنشاء ليس برهانًا على تعدّد المصادر، فإنّ الطابع التعليميّ الذي تتّسم به هذه الفقرة أو تلك قد يكون ناجمًا عن تأثير التعليم عند المعموديّة، وحسن إحكام بنية الرسالة دليل على وحدتها الأدبيّة.
ولكن هناك فقرة كانت في الماضي موضوع مناظرة مشهورة، ومن الأكيد أنّها غير مثبَّتة. إنّها جملة معترضة وردت في ١ يو ٥/ ٦-٨، وهي التي بين قوسين في هذه الجملة: «الذين يشهدون هم ثلاثة (في السماء وهم الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد والذين يشهدون هم ثلاثة في الأرض) الروح والماء والدم، وهؤلاء الثالثة هم متّفقون». لم يرد هذا النصّ في مخطوطات ما قبل القرن الخامس عشر، ولا في الترجمات القديمة، ولا في أحسن أصول الترجمة اللاتينيّة، والراجح أنّه ليس سوى تعليق كُتب في الهامش ثمّ أُقحمَ في النصّ أثناء تناقله في الغرب.
الرسالتان الصغيرتان
يختلف هذان المؤلَّفان عن رسالة يوحنّا الأولى، لأنّ فيهما جميع ميزات الرسائل الحقيقيّة. إنّ الرسالة الثانية موجّهة «إلى السيّدة المصطفاة وإلى أبنائها»، وهو لقب أطلقه الشيخ على كنيسة من كنائس آسية الخاضعة لسلطته، ولا نعرف أيًّا هي. كان إيمان المسيحيّين في هذه الجماعة على خطر، فقد اندسّ بينهم مضلّون يُنكرون التجسّد (الآية ٢ يو ١/ ٧)، ولا يقيمون على الولاء لتعليم المسيح (الآية ٢ يو ١/ ٩). فأراد يوحنّا أن يحذّر المؤمنين من مثل هذا التعليم (الآيات ٢ يو ١/ ٨ و١٠-١١). فيجب عليهم، وقد عرفوا الحقّ (الآية ٢ يو ١/ ١)، أن يسلكوا سبيل الحقّ (الآية ٢ يو ١/ ٤) وأن يحبّ بعضُهم بعضًا (الآية ٢ يو ١/ ٥)، فيسيروا في نور الوصيّة التي أتت من عند الآب وتلقّوها من الكنيسة منذ البدء (الآيات ٢ يو ١/ ٤-٦). وردت هذه الموضوعات على نحو أوسع تفصيلًا في الرسالة الكبرى.
بين الرسالة الثالثة والرسالة الثانية وجوه شبه في الإنشاء مدهشة (راجع ٢ يو ١/ ١ و٤ و١٢-١٣؛ ٣ يو ١/ ١ و٣ و١٣-١٥). ومع ذلك فإنّ للرسالة الثالثة طابعًا شخصيًّا ظاهرًا على نحو أشدّ بكثير. إنّها موجّهة إلى امرئ اسمه غايس هنّأه الشيخ بأنّه يسير في الحقّ (الآية ٣ يو ١/ ٣ وراجع ٢ يو ١/ ٤). يعود ما فيها من لهجة جدليّة خفيفة إلى أزمة انفجرت بين المؤمنين. كان الشيخ قد كتب رسالة إلى الجماعة، ولكنّ ديوتريفس، والراجح أنّه كان رئيس تلك الكنيسة، لم يعترف بسلطته (الآية ٣ يو ١/ ٩)، فرأى الشيخ نفسه مضطرًّا الآن إلى مراسلة غايس، أحد وجوه المسيحيّين الذين ظلّوا موالين له. كان الشيخ يوجّه، من الكنيسة التي يقيم فيها، فريقًا من الوعّاظ الجوَّالين، وقد عهد إليهم بأن يعرّفوا الوثنيّين اسم يسوع المسيح (الآية ٣ يو ١/ ٧). وكانوا يعيشون في كلّ مكان على نفقة المسيحيّين الذين كانوا يعاونونهم في سبيل الحقّ (الآية٣ يو ١/ ٨)، ولكنّ ديوتريفس أبى أن يتقبّلهم، لا بل طرد من الكنيسة كلّ مَن يعاونهم (الآية ٣ يو ١/ ١٠). فالغاية من هذه الرسالة هي حثّ غايس على مواصلة عمله في تأييد المرسلين.
ظاهر هذه الرسالة إذًا هو أنّها رعائيّة، ليس فيها أيّ تلميحٍ كان إلى تعاليم البدع المذكورة في الرسالتين الأولى والثانية. غير أنّ مقاومة ديوتريفس العنيفة لعمل البشارة الذي يوجّهه الشيخ ورفضه للاستماع إليه، وهو ميزة روح الضلال (١ يو ٤/ ٦)، وتأكيد الشيخ أنّ ديوتريفس لم يرَ الله (٣ يو ١/ ١١)، وهو تلميح إلى ادّعاء أهل البدع أنّهم يرون الله (١ يو ٣/ ٦ وراجع ١ يو ٢/ ٤)، وآخر الأمر سروره بأنّ غايس يسير في الحقّ (٣ يو ١/ ٣ و٤)، وهو سلوك يناقض سلوك المضلّين (٢ يو ١/ ٤-٧)، ذلك كلّه يحملنا على افتراض أنّ ديوتريفس متورّط بعض التورّط في الضلال.
ليس من دليل واضح يتيح لنا القول، على نحو أكيد، في أيّ ترتيب كُتبت الرسائل. يرى بعض الكتبة أنّ الرسالة الأولى هي آخر الرسائل من جهة تاريخ كتابتها. لا يخلو هذا الرأي ممّا يرجّحه: فإنّ فريقًا من المسحاء الدجّالين قد انفصل عن الجماعة (١ يو ٢/ ١٩). ويبدو أنّ ذلك الأمر يدلّ على أنّ البدعة قد ازدادت انتشارًا ورسوخًا، وتوحي طريقة الكاتب في كلامه عليها بأنّ الخطر يعمّ. لقد وجّه الكاتب كلامه إلى جماعة محلّيّة في الرسالة الثانية والثالثة، وها هوذا الآن يعود إلى الموضوعات نفسها في رسالة جماعيّة، موجّهة هذه المرّة إلى مختلف كنائس آسية الخاضعة لسلطته.
التفكير اللاهوتيّ في الرسالة الأولى
ليس مرادنا القيام بتحليلٍ كامل لما في الرسالة من التفكير اللاهوتيّ، بل إظهار تعليمه الرئيسيّ. عبّرَ الكاتب عن بغيته تعبيرًا واضحًا في الآية التي وردت في خاتمة الرسالة: «كتبتُ إليكم بهذا لتعلموا أنّ الحياة الأبديّة لكم، أنتم الذين يؤمنون باسم ابن الله» (١ يو ٥/ ١٣). فقد أراد يوحنّا، في البلبلة التي سبّبتها البدع، أن يجعل المؤمنين على يقين من أنّ الحياة الأبديّة لهم وليست للأنبياء الكذّابين. يدوّي هذا اليقين كصيحة انتصار الإيمان على العالم: «نعلم أنّ جميع الذين ولدوا لله لا يخطأون… نحن نعلم أنّنا من الله وأنّ العالم كلّه تحت وطأة الشرّير. ونعلم أنّ ابن الله… أولانا بصيرة نعرف بها الحقّ. نحن في الحقّ إذ نحن في ابنه يسوع المسيح» (١ يو ٥/ ١٨-٢٠). يجب على المسيحيّين، ليردّوا على ادّعاءات الغنوصيّة الكاذبة، أن يجهدوا لينمّوا ويرسّخوا فيهم ذلك «العرفان» الحقيقيّ، وهو يقين الإيمان كما قالَ بعض الكتبة: «إنّ المسيحيّ الكامل لم يبقَ في الظلام، بل هو في النور: إنّه يعلم».
الموضوع العظيم في الرسالة هو مشاركة المؤمنين لله: إنّها «مشاركة الآب وابنه يسوع المسيح» (١ يو ١/ ٣)، ولكنّها تظهر عند المسيحيّين مشاركة بين الإخوة (١ يو ١/ ٣ و٦). لم ترد هذه الكلمة، كلمة مشاركة، في مكان آخر عند القدّيس يوحنّا، ولكنّ الحقيقة التي تُعبّر عنها توصف في الرسالة كلّها بعبارات مختلفة تكاد أن تكون سواء، وتُظهر كلّ ما في تلكَ الحياة من غنى. فالمؤمن هو «من الله» (١ يو ٢/ ٥ وراجع ١ يو ٥/ ٢٠) و«الله يقيم فيه» أو «في الابن والآب» (١ يو ٢/ ٦ و٢٤ و٢٧؛ ١ يو ٣/ ٦) (و«يقيم في الله ويقيم الله فيه») (١ يو ٣/ ٢٤؛ ١ يو ٤/ ١٥ و١٦). وهو «مولود لله» (١ يو ٢/ ٢٩؛ ١ يو ٣/ ٩؛ ١ يو ٤/ ٧؛ ١ يو ٥/ ١ و٤) و«ابن الله» (١ يو ٣/ ٢ و١٠) و«يحظى بالآب والابن» (١ يو ٢/ ٢٣؛ ١ يو ٥/ ١٢-١٣ وراجع ٢ يو ١/ ٩) و«له الحياة» (١ يو ٥/ ١٢). ويجب أن يضاف إلى ذلك عبارة الكتاب المقدّس «عرف الله» (١ يو ٢/ ٣؛ ١ يو ٤/ ١٤ وراجع ١ يو ٣/ ١؛ ١ يو ٤/ ٦ و٧ و٨). وينبّه يوحنّا بإلحاحٍ بيّن إلى أنّ مشاركة الله هذه لا تُدرك إلَّا بوساطة وفي وساطة يسوع ابن الله الذي سمعه الشهود الأوّلون ورأوه (١ يو ١/ ١-٣). وإذا كنّا نستطيع أن «نعرف الحقّ» فلأنّنا في ابنه يسوع المسيح، إذ إنّه هو «الإلٰه الحقّ والحياة الأبديّة» (١ يو ٥/ ٢٠).
ولمّا كان المسيحيّون الحقيقيّون يعرفون الله (١ يو ٤/ ٦-٧)، فإنّ كشفهم عمّا هو يسير دائمًا أبدًا من حسن إلى أحسن. أشار يوحنّا إلى ثلاثة مظاهر يتجلّى فيها سرّ الله للمؤمن: الله نور والله بارّ والله محبّة.
بلَّغ يوحنّا المسيحيّين منذ مطلع الرسالة بلاغًا عظيمًا. ثمَّ كشف لهم عن معناه كشفًا تامًّا، وهو أنّ الله نور (١ يو ١/ ٥). فكلمة نور تعني «وحي»، كما شأنها هو في الدين اليهوديّ. فقد عادَ إلى موضوع المقدّمة، وهو أنّه في يسوع المسيح كُشفَ عن الحياة الأبديّة، أي عن حياة الآب والحياة البنويّة للكلمة المتَّجه نحو الآب (١ يو ١/ ٢). هذا النور الحقيقيّ، نور الوحي، يضيء للناس (١ يو ٢/ ٨) منذ مجيء المسيح، وهو لهم من بعد الآن بلاغ محبّة الله لهم، وفي الوقت نفسه دعوة لكي يحيوا هم أيضًا في المحبّة. فجميع الذين يبتغون الإقامة في هذا النور، نور الله، يحبّون إخوتهم (١ يو ٢/ ١٠)، ويشارك بعضهم بعضًا (١ يو ١/ ٧).
وهناك كمال إلٰهيّ آخر يُذكر مرّتَيْن، وهو أنّ الله بارّ (١ يو ١/ ٩؛ ١ يو ٢/ ٢٩). أُطلقَ هذا اللقب أيضًا على المسيح مرّتين (١ يو ٢/ ١؛ ١ يو ٣/ ٧)، لأنّ برّ الله تجلّى للعالم بعمله لخلاصهم. فإنّ برّ الله في كلّ من هاتين الفقرتين مقترن بمعنى الخطيئة، لأنّ الله بِبِرّه خلّصنا من الخطيئة، وهكذا أظهرَ المحبّة التي يكنّها لنا (راجع ١ يو ٢/ ١-٢؛ ١ يو ٤/ ١٠). والمؤمن، إذ يرى هذا الكشف عن برّ الله لخلاص الناس، يشعر بما يحمله على عمل البرّ هو أيضًا (١ يو ٢/ ٢٩) وعلى أن يكون طاهرًا كما يسوع هو طاهر (١ يو ٣/ ٣).
إنّ التعريف الثالث الذي به عرّف يوحنّا الله هو التعريف الأشهر، وهو حقًّا في لبّ وحي العهد الجديد: إنّ الله محبّة (١ يو ٤/ ٨ و١٦). المحبّة في نظر يوحنّا بذل للنفس ومشاركة معًا. المحبّة في الله توحّد الآب والابن، ولكنّ هذه المحبّة الإلٰهيّة تكشف عن نفسها وتفيض بما فيها، فإنّ كلّ محبّة من الله (١ يو ٤/ ٧). إنّ عمل الخلاص الذي قام به الابن هو كلّه، في نظر يوحنّا، الكشف الكبير عن محبّة الله (١ يو ٣/ ١٦؛ ١ يو ٤/ ٩-١٠ و١٦). ونحن جميعًا الذين عرفنا بالإيمان هذا البلاغ مدعوّون، لأنّنا مسيحيّون، إلى أن ندع هذه المحبّة، محبّة الله، تتمّ فينا (١ يو ٢/ ٥؛ ١ يو ٤/ ١٢ و١٧ و١٨) فنحبّ إخوتنا (١ يو ٤/ ٢٠): نحبّهم كما هم في حقيقتهم، أي أبناء الله (١ يو ٥/ ٢). فتصبح حياة المؤمن، من جرّاء هذا الوحي، حياة «في الحقّ والمحبّة» (٢ يو ١/ ٣). إنّ هذه الحياة، حياة الإيمان والمحبّة، هي الشرط المباشر لمعرفة الله.
على أنّه لم يفت يوحنّا أنّ المعلّمين الكذّابين يدّعون هم أيضًا أنّهم «يعرفون الله». ولذلك أكثر من التنبيهات ليدلّ على مقاييس الحياة المسيحيّة الصحيحة. ويمكن إدراجها في سلسلتَيْن: فهناك أوّل الأمر المقاييس من النوع الخلُقيّ، من اجتناب الخطيئة (١ يو ٣/ ٦) والإقلاع عن حبّ العالم (١ يو ٢/ ٥) والسير في النور (١ يو ١/ ٧) وعمل البرّ (١ يو ٢/ ٢٩؛ ١ يو ٣/ ١٠) وحفظ الوصايا (١ يو ٢/ ٣-٥؛ ١ يو ٣/ ٢٤؛ ١ يو ٥/ ٢)، ولا سيّما وصيّة المحبّة الأخويّة (١ يو ٢/ ٩-١١؛ ١ يو ٣/ ١٠ و١٨-٢٠؛ ١ يو ٤/ ١٣ و٢٠؛ ١ يو ٥/ ١). وهناك أيضًا المقاييس التي تتناول العقيدة، وهي الثبات في التعليم الذي سُمعَ منذ البدء (١ يو ٢/ ٢٤) والاستماع إلى الذين في الكنيسة يعلّمون الحقّ (١ يو ٤/ ٦) والإيمان والشهادة بأنّ يسوع هو المسيح ابن الله (١ يو ٢/ ٢٣؛ ١ يو ٤/ ٢؛ ١ يو ٥/ ١ و١٠). أمّا موهبة الروح القدس (١ يو ٣/ ٢٤؛ ١ يو ٤/ ١٣) فليست هي مقياسًا في المعنى الحقيقيّ، بل قوّة باطنة تبعث الإيمان والمحبّة الأخويّة.
ما هي ثمار تلك المشاركة الصحيحة، مشاركة الله والإخوة؟ إنّ عمل كلام الله والإيمان الحيّ يؤتيان المسيحيّ الغلبة على الخطيئة والعالم (١ يو ٢/ ١٣ و١٤؛ ١ يو ٤/ ٤؛ ١ يو ٥/ ٤-٥). فمن عاشَ حياته، حياة ابن الله، على وجهٍ تامّ، أصبحَ شبه عاجز عن ارتكاب الخطيئة (١ يو ٣/ ٦ و٩؛ ١ يو ٥/ ١٨). وإنّ خضوعه التامّ لمشيئة الله ينفي عنه كلّ خوف (١ يو ٤/ ١٨) ويوليه الثقة التامّة لدى الديّان العظيم، ويوليه أيضًا الاطمئنان بأنّه يُستجاب له في صلاته (١ يو ٣/ ٢١-٢٢؛ ١ يو ٥/ ١٤-١٥). ولذلك تصبح تلك المشاركة بين المؤمنين ينبوع سلامٍ لهم (٢ يو ١/ ٣)، وتبعث فيهم الفرح المسيحيّ (١ يو ١/ ٣).
الخاتمة
تعرض رسائل يوحنّا الحياة المسيحيّة الصحيحة عرضًا شاملًا. إنّها حياة مشاركة الله، فهي تحقّق تحقيقًا تامًّا العهد الجديد بين الله والناس، وقد أنبأ الأنبياء بقيامه في أزمنة الخلاص. إنّ هذا العهد الجديد قبل كلّ شيء بالكشف الذي أتى به يسوع المسيح، الكشف عن محبّة الله. وهو جديد أيضًا لأنّ هذه الحقيقة صارت حقيقة باطنة بعملٍ من الروح القدس. وهكذا أصبح الإيمان والمحبّة شريعة تلاميذ المسيح الجديدة. وشاء يوحنّا أن يحمل هذا الكشف جميع ثماره، فشدّد على ضرورة تقليد لا ينفكّ يرجع إلى أصله، وقد شدّدَ أيضًا في كلامه على ما لتمييز الأرواح «والمسحة» الباطنيّة، واختبار إيمان المسيحيّين، من شأنٍ عظيم. وهذه كلّها أمور من العقيدة بُحث فيها بحثًا طويلًا بعدئذٍ في علم اللاهوت والروحانيّة والتصوّف عند المسيحيّين.
تحتوي هذه الرسائل تعليمًا يتناول مشاركة الله والخلُق الكريم والتفكير اللاهوتيّ المتصوّف، وهي تعرض أيضًا لنا تعليمًا يتناول الحياة الأخرى. فلا يمكن أحدًا إلَّا أن يؤخذ بما فيه من شأنٍ لنهاية الأزمنة. قال يوحنّا: إنّ الساعة الأخيرة قد أتت. إنّنا نحن المسيحيّين في حالة مقاومة للعالم، ولكنّنا نعلم أنّ هذا العالم زائل، ولذلك نحن مدعوّون إلى أن نرسِّخ على يسوع رجاءنا كلّه، وعندما يظهر نراه كما هو.
إنّ موافقة هذا البلاغ لعصرنا ولجميع العصور أمر بيّن. فالإيمان يمرّ بحالةِ أزمة في عهدنا، كما كان في عهودٍ أُخرى. يريد المسيحيّون أن يعرفوا أين حقيقة الإيمان، فيبحثون عن مقاييس تدلّهم على روح الله. لا يسأل يوحنّا هؤلاء المؤمنين الحاصلين على معرفة الحقيقة إلَّا الثبات في تعليم يسوع المسيح، وأن يكونوا بحياتهم، حياة المحبّة، شهودًا لإيمانهم بابن الله.