الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي
أوّل ما يقع في نفس قارئ الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي هو ما يشعر به من فرق بين لهجة بولس فيها وفي سائر الرسائل. فإنّ صاحبها لا يبدو مشغول البال بمسألة عقائديّة كبيرة، بل يريد قبل كلّ شيء الكشف عمّا يكنّ في صدره من المودّة تشدّه إلى جماعة أنشأها لعهدٍ قريب وتركها قبل قليل. قلق بولس هنيهة، ولكنّه ما لبث من بعدها أن انشرح صدره لمّا بلغه آخر الأمر من الأخبار السارّة. فقد عبّر بكلام شكر طويل عن فرحه بأن يرى إيمان الكنيسة الفتيّة الناشئ مشعًّا (إنّ الآيات في ١ تس ١/ ٢-١٠ هي كلّها جملة واحدة طويلة). فلا حاجة به إلى تصويب ضلال، فهو يعلم أنّ الإخوة هم في جادة الصواب وأنّهم ثبتوا للمحنة. فالأمر الواحد الذي يوصيهم به هو أن يثابروا على سلوك هذا الطريق ويواصلوا تقدّمهم. أجل، ينتظر بولس بفروغ الصبر أن يعود إلى أهل تسالونيقي، ليكمل ما لا يزال ناقصًا من إيمانهم (١ تس ٣/ ١٠). ولكنّه ليس في قلق لأنّ مراسليه أوفياء يعرفون كيف يجب عليهم أن يعيشوا بعد اليوم، فهم يكادون لا يحتاجون إلى أن يعيد لهم القول في ذلك (١ تس ٤/ ٩؛ ١ تس ٥/ ١).
تعيش كنيسة تسالونيقي في ما أُعلن عدّة مرّات (١ تس ١/ ١٠؛ ١ تس ٢/ ١٩؛ ١ تس ٤/ ١٦) من رجاء عودة المسيح في المجد وشيكًا. فهي برهان على أنّ الإنجيل يواصل سيره أيًّا كانت العقبات التي تعترض سبيله.
عبَّرَ بولس عن هذا الفرح وهذه الحماسة بلُغةٍ بسيطة لا تكلُّفَ فيها. والرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي هي أشبه بكلام عطف ومودّة يخاطب به الأب أولاده (راجع ١ تس ٢/ ١١-١٢)، وهو يعلم الصعاب التي يجب عليهم أن يذلّلوها. فإنّ القارئ، وهو يطالع هذه الرسالة من فجر المسيحيّة، يحسّ بوطيس المعارك الحامية التي خاضها المسيحيّون الأوّلون وبالنشوة التي نالتهم من الانتصارات الأولى. فيجد فيها السخاء الذي يطبع كلّ نشأة عظيمة.
تاريخ الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي
ليست الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي أوّل رسالة كتبها بولس فحسب، بل أقدم ما كتب من العهد الجديد. فلا شكّ في أنّ الرسول بعث بها أوّل العام ٥١ (بعد موت يسوع بنحو عشرين سنة)، بُعيدَ وصوله إلى قورنتس، حيث جاء طيموتاوس ليحمل إليه الأخبار الآتية من تسالونيقي. أجل، إنّ التقاليد الإنجيليّة قد تكوَّنت في ذلك الوقت، ولكنّ الأناجيل كما في أيدينا الآن لم تكن قد دُوِّنت. هناك نصوص من العهد الجديد تروي لنا تقاليد أقدم، ولكنّ الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي هي أوّل وثيقة مسيحيّة.
الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي
إنّ الرأي الشائع عند جماعة غير قليلة من المفسّرين هو أنّ الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي هي رسالة بعثَ بها بولس بعد الأولى بقليل، ولكن، وإن كانت الرسالتان تحملان العنوان نفسه، وقد عدَّتهما الكنيسة القديمة رسالتين للرسول بولس، فهناك بعض الأسئلة في شأن صحّة نسبة الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي. فلأن يكون في الرسالة الثانية نحو عشرة ألفاظ لم ترد في سائر ما كتب بولس مشكلةٌ ليست ذات بال، فإنّ في الرسالة الأولى عددًا أكبر منها. وأمَّا أنّ بعض الألفاظ تُستعمل في معنى غير المعنى الذي ترد فيه في سائر رسائل بولس، فليس في ذلك دلالة كافية لننفي صحّة نسبة هذه الرسالة إلى بولس. ولكنّ العرض الدقيق للرسالتين إحداهما على الأخرى يؤدّي إلى ملاحظتين أهمّ شأنًا:
١) وجوه الشبه الأدبيّة بين الرسالتين واضحة. ففي الفصول الثلاثة الأولى من الرسالة الثانية عبارات أو آيات برمّتها تبدو مأخوذة من الرسالة الأولى، إذا استُثنيَ التعليم الخاصّ الوارد في ٢ تس ٢/ ١-٢. وحسبنا، إذا أردنا تحقّق الأمر، أن نضع هذه النصوص في عمودَيْن متحاذيَيْن:
١ تس ١/ ٢-٣و٢ تس ١/ ٣
١ تس ٢/ ١٢و٢ تس ١/ ٥
١ تس ٣/ ١٣و٢ تس ١/ ٧
١ تس ٣/ ١١-١٣و٢ تس ٢/ ١٦-١٧
١ تس ٢/ ٩و٢ تس ٣/ ٨
١ تس ٥/ ٢٣و٢ تس ٣/ ١٦
١ تس ٥/ ٢٨و٢ تس ٣/ ١٨
كثيرًا ما يحاول المفسِّرون حلّ مشكلة وجوه الشبه هذه بقولهم إنّ الرسالتين كلتيهما أُمليتا في مدّة قصيرة، الأمر الذي يوضّح سبب ما بينهما من قرابة وثيقة. ولكن، إذا كان الوقت الذي يفصل بين إرسال الواحدة والأخرى بهذا القصر، وجب القول إنّ تطوّرًا مفاجئًا طرأ في تسالونيقي، في حين أنّه ما من شيء في الرسالة الأولى يشير إلى احتمال حدوثه. فيعسر، والحالة هي هذه، أن يُفَسَّر كيف أنّ الرسول، وهو يخاطب الأشخاص أنفسهم في بضعة أسابيع، انتقل من لهجة كلّها شغف وحماسة كالتي في الرسالة الأولى، إلى لهجة أشدّ وقارًا وإلى إنشاء معقَّد يَدهش لهما القارئ.
٢) إنّ تعليم الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي في أحداث آخر الأزمنة لا يشير إلى ما كُتب في ١ تس ٥/ ١-٦ من أنّ يوم الربّ سيأتي على نحو مفاجئ. وهذا الأمر غريب على قدر ما تعلِّم الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي أنَّ الناس سينتقلون من سلامٍ ظاهر إلى الخراب، في حين أنّ الرسالة الثانية تصف تعاقب مراحل تاريخ البشر قبل تجلّي المسيح في المجد. يمكن الرّد على ذلك بأنّ أسلوب الرؤى ما انفكَّ يمزج بموضوعَيْ مباغتة الحدث والعلامات المبشّرة به، كما يظهر ذلك في النصوص الإنجيليّة نفسها (مر ١٣/ ١-٣٧ وما يوازيه في سائر الأناجيل). ولكن، إذا عرض لبولس أن يلقي تعليمًا يتناول فيه الأزمنة الأخيرة (١ تس ٤/ ١٣-٥/ ٣؛ ١ قور ١٥/ ٢٠-٢٤)، فإنّ هذا التعليم لا يدع مجالًا لفترة يحدث فيها ارتداد عن الدين ومجيء مسيح دجّال. ومن الواضح أنّ الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي كُتبت خصوصًا لتعرّض ذلك المشهد من أدب الرؤى (٢ تس ٢/ ١-١٢). فلو كان المراد توضيح تعليم سابق أو تصويبه، فلماذا عرضه كأنّه مجرّد تذكير بتعليم، سواء أكان بالكتابة أم بالمشابهة، يشدِّد فيه على مجيء غير متوقّع ليوم الربّ، «كالسارق في الليل»؟
فالمسألة تبقى على بساط البحث، ولا شكّ في أنّها ليست جوهريّة، لأنّ التقليد القديم لم يأت على ذكرها. إنّ الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي تتناول الحالة الخاصّة بالجماعات المسيحيّة التي كانت هنا وهناك في قلق، لأنّها لم ترَ يوم الربّ آتيًا بالسرعة المتوقَّعة. فمن المعقول أنّ كاتبًا مسيحيًّا كان مسؤولًا عن إحدى الجماعات ومتضلّعًا من تعليم بولس رأى لزامًا عليه أن يصوِّب، في ظلّ الرسول، تفسيرًا خاطئًا فيه خطر لانتظار عودة المسيح، وإنّ هذا الرأي يشرح شرحًا حسنًا ما نشأ من المصاعب الملاحظَة في التوفيق بين مختلف الأمور المذكورة سابقًا. لا تعود هذه الطريقة إلى روح التزوير، كما قد يوحي إلينا الأمر فهمنا العصريّ للأدب، فإنّ الأدب المسيحيّ واليهوديّ قد استعمل هذه الطريقة مرّاتٍ كثيرة ليوضّح تعليمًا تقليديًّا أو يوغل في شرحه. ومهما يكن من أمر، كان للرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي جدوى كبيرة في تاريخ الكنيسة، لأنّها، على ما فيها من تلميحات غامضة، حالت دون كلّ تهرّب من حقيقة المعركة التي يجب على المسيحيّين أن يخوضوها في العالم، ولأنّها ذكَّرت بأنّ الرجاء المسيحيّ لا ينفصل عن السهر كلّ يوم.
خبرة بولس الرسوليّة
يستعمل بولس في الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي، ولا سيّما في الفصول الثلاثة الأولى، صيغة الحاضر، ولكنّه لا ينفكّ يرجع إلى الماضي. فكلّما انتقل القارئ من موضوع إلى موضوع، صادف أفعالًا مثل «ذكر» أو «عليم» أو «عرف» بمعنى «تذكَّر هذا الحدث أو ذاك» (١ تس ١/ ٣ و٤ و٥؛١ تس ٢/ ١ و٢ و٥ و٩ و١١؛١ تس ٣/ ٣ و٤ و٦؛١ تس ٤/ ٢؛١ تس ٥/ ٢).
ذلك بأنّه لا معنى لعلاقات بولس الحاضرة بمراسليه إلَّا لأنّها قائمة على ما عاشوا معًا من حياة مشتركة قبل بضعة أشهر. فإنّ هذه العلاقات متأصّلة في ما اختبر بولس والإخوة معًا لدى نشوء الجماعة المسيحيّة، لمَّا أعلن الرسل الإنجيل. فقد حظينا، بفضل هذه الإشارات إلى الماضي، بشهادة ثمينة جدًّا. فلربّما لم يكشف بولس قطّ عن سرّ أخبار في مثل هذه الدقّة، فقد شهدها هو بنفسه، وهي تُطلعنا على أوّل مرّة تقلّبت فيها جماعة بشريّة الإيمان بالقيامة.
لمّا تلقَّى أهل تسالونيقي الإنجيل بدّلوا سيرتهم. فإنّهم أخذوا ينتظرون مجيء يسوع، الابن الذي أقامه الله من بين الأموات، فكان لبولس أن يشكر الله على إيمانهم ومحبّتهم وثباتهم (١ تس ١/ ٣). نشأ التبديل الجوهريّ هذا، قبل كلّ شيء، عن تلك المبادرة نفسها، مبادرة الله، عن هذا الاختيار نفسه، اختيار المحبّة الذي جعل في الماضي شعب إسرائيل الشعب المختار (١ تس ١/ ٤؛ ١ تس ٢/ ١٢). وبولس يعرف حقّ المعرفة أن ليس له أن ينسب هذا الاهتداء إلى كلامه البشريّ، ولم يطلب نجاحًا لشخصه، ولم يتوخَّ إرضاء الناس (١ تس ٢/ ٣). والحقيقة هي أنّ كلامه هو كلمة الله نفسه، وأنّ قدرة الله هي التي مكَّنت هؤلاء اليونانيّين «من ترك الأوثان ليعبدوا الله الحيّ الحقّ» (١ تس ١/ ٩). فليس هذا الكلام مجرّد خطاب إنسان عنده ما يقوله في الله، بل هو كلمة الله وتدخّل الله بروح القدس لخير الذين سمعوا الرسول، وإيمان المؤمنين يظهر فعّاليّته (١ تس ٢/ ١٣).
سمَّى بولس هذه الكلمة «البشارة» (بشارة الله) إذ لا تدلّ إلّا على بلاغ الرسل، على البشارة التي ذكَّر بها أهل قورنتس بعد قليل (١ قور ١٥/ ١ ت)، والتي قد يكون ما وردَ في ١ تس ٢/ ٩-١٠ صيغة لها أقدم. إنّ الرسول، بإعلانه قيامة يسوع، يصبح معاونًا لله (١ تس ٣/ ٢)، لأنّ الله يعمل بالروح القدس عملًا قويًّا في صميم هذا الإعلان (١ تس ١/ ٥). وهكذا يتبيّن بولس حدثًا مذهلًا كتقبُّل كلمة الله «بسرور من الروح القدس» (١ تس ١/ ٦)، ضمن المحن والاضطهاد التي تصحب الإيمان بيسوع (١ تس ٢/ ١٤). ولا يقتصر هذا العمل على نشوء الجماعة المؤمنة، فإنّ المسيحيّين الجدد، في غمار جميع المعارك والمحن الكثيرة التي تنتابهم، لا ينفكّون يدعون إلى إيمان أشدّ نشاطًا، ومحبّة أسخى عطاءً، ورجاء لا تخور قواه.
وما معنى هذا سوى أنّ قدرة الله التي أقامت يسوع من بين الأموات تعمل الآن في البشارة الرسوليّة؟ ليست قيامة يسوع مجرّد تعبير عن معنى سُلِّمَ إلى يقين الرسول أو فنّه الخطابيّ. فإنّ ما يُنادي به، وهو قدرة الله التي تحيي بانتصارها على الموت، يظهر في العمل نفسه ذلك الذي يحوِّل الوثنيّين إلى عبادة الله الحيّ، لا بل هذه القدرة تُجري فيها ما أجرته في يسوع. ولذلك أطلق بولس العنان، على هذا النحو، لثقته وارتياحه ويقينه في الإيمان (١ تس ٣/ ٧)، لا بل ذهب إلى حدّ أنّه جعل وجود جماعة تسالونيقي رجاءه وسروره وإكليل فخره لدى الربّ يسوع يوم مجيئه (١ تس ٢/ ١٩). وأعلن في أحوال أخرى أنّه لا يفتخر إلّا بصليب سيّدنا يسوع المسيح، أو يسوع المسيح فحسب (١ قور ٥/ ٧). ففي الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي، يظهر لنا كيف أنّ الجماعة التي يعمل فيها المسيح هي والمسيح نفسه شيء واحد في رجاء بولس، وهو حاصل سالفًا على شيء من المجد الذي ينتظره من الملكوت الآتي (١ تس ٢/ ١٢). فإنّ الله، إذ بعث الإيمان في قلوب الناس، قد مجّد معاونه على وجه من الوجوه، كما قال: «بلى أنتم مجدنا وسرورنا» (١ تس ٢/ ٢٠).
لقد اختبر بولس في نشاطه الرسوليّ صلة سرّ موت المسيح وقيامته بالحاضر. فليس ذلك السرّ حدثًا يعود إلى الماضي فحسب. إنّ الجماعات المسيحيّة وبولس نفسه يواجهون المحنة التي واجهها يسوع (١ تس ١/ ٦؛ ١ تس ٢/ ١٤). وفي هذا التاريخ الذي فيه يعمل الموت، رأى تدفُّق حياة الذي قام من بين الأموات ومجده.
التعليم في موضوع الأخيريّة
١) الرسالة الأولى: إنّ الفصول الثلاثة الأولى من الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي هي، قبل كلّ شيء، تذكيرٌ بالماضي، وإنّ لهجة هذا المؤلّف تجعل هذه الرسالة، كما رأينا، رسالة فريدة في نوعها، ومع ذلك، نجد فيها أيضًا تعليمًا من نمطٍ خاصّ في الآخرة، أي في أحداث نهاية الأزمنة. ولا يقتصر هذا التعليم على ما وردَ بوضوح في ٤/ ١٣-٥/ ٣، فإنّ رجاء عودة المسيح هو اليقين الذي يسم بسِمته الرسالة كلّها (١ تس ١/ ١٠؛١ تس ٢/ ١٩؛ ١ تس ٣/ ١٣) والذي تقوم عليه سيرة المسيحيّ. فالمسيحيّ هو رجل ذلك الانتظار. إنّ يوم الربّ الذي أنبأ به العهد القديم، أي اليوم الذي فيه يتجلّى الله ديّانًا للأبرار والفجّار، هو، بحسب ما يفهمه بولس، يوم المسيح، اليوم الذي يأتي في مجده، مجد ابن الله، لخلاص المؤمنين وهلاك الأشرار. في ذلك اليوم، يجب على المؤمنين أن يكونوا لا غبار عليهم.
يُضاف إليه أنّ مجيء هذا اليوم يُنتظر في مهلة قصيرة (١ تس ٤/ ١٥؛ نحن الباقين إلى مجيء الربّ). كان أبناء الجيل المسيحيّ الأوّل، وفيهم بولس، يعتقدون أنّ عودة ربّهم قريبة. وقد أوضح الرسول فكره في معرض كلامه على مسألة خاصّة: أيًّا يكون مصير المسيحيّين الذين يموتون قبل عودة المسيح؟ أتراهم، لأنّ مجيء الربّ في المجد سيفوتهم، أضعف حظًّا من المسيحيّين الذين سيكونون أحياء؟ يظهر أنّ هذا السؤال خطرَ ببال الجماعات المسيحيّة في وقت مبكّر. فإنّ عدم معرفة موعد عودة المسيح على وجهٍ دقيق جعل كلّ مؤمن في خطر أن يموت قبل اليوم المنتظر. فبدَّدَ بولس مخاوف مراسليه (١ تس ٤/ ١٣-١٨)، مُبَيِّنًا أنّ الرجاء يبقى ثابتًا، لأنّه مبنيّ على قيامة المسيح وقدرة الله الذي أقام يسوع من بين الأموات. فالمسيحيّ ليس ميتًا للأبد، ولن ينسى الذي قام من بين الأموات أحدًا من ذويه، وسوف يشتركون جميعًا في اليوم العظيم المجد. متى حان الوقت، سيقوم الذين ماتوا أوّلًا ويذهبون مع المسيحيّين الأحياء إلى ملاقاة الربّ ليكونوا معه للأبد.
يلقي بولس هذا التعليم، مستندًا إلى ما قاله الربّ (١ تس ٤/ ١٥) ومستعملًا الاستعارات التقليديّة الواردة في أدب الرؤى عند اليهود (صوت رئيس الملائكة وبوق الله المنبئ بقضائه). إنّه لأمر ذو مغزى أن يرى بولس من العبث صرف الوقت في تحديد الأزمنة والآونة، في حين أنّه يلحّ في مباغتة ذلك اليوم الذي سيأتي كالسارق في الليل. سيظنّ الناس أنفسهم في سلام فيدهمهم الهلاك (١ تس ٥/ ٢-٣). فعلى المسيحيّين إذًا أن يكونوا في همٍّ من أمرٍ واحد، وهو أن يكونوا مستعدّين دائمًا أبدًا لاستقبال سيّدهم وللسهر المتواصل.
٢) الرسالة الثانية: يختلف اهتمام الكاتب في الرسالة الثانية اختلافًا تامًّا عنه في الرسالة الأولى. إعتقد بعض المسيحيّين أنّ عودة المسيح وشيكة، فأخذوا يتصرّفون في سيرتهم كما لو كان يوم الربّ قد حضر، متذرّعين بتعليم للرسل أساؤوا فهمه (٢ تس ٢/ ١-٢). فإنّ بعض أعضاء الجماعة يسيرون سيرة باطلة (٢ تس ٣/ ٦). والراجح أنّهم أبطلوا ما تفرضه الحياة اليوميّة وأهملوا عملهم (٢ تس ٣/ ١٠-١٢). ما وردَ في الفصل الثاني من توضيح للأحداث التي لا بدّ من وقوعها قبل مجيء الربّ يوافق هذه الحالة، فإنّه يهدف إلى دفع كلّ استباق خدّاع ومحاربة كلّ وهم. أجل، إنّ المسيح سيأتي ليعاقب غير المؤمنين ويشرك المؤمنين في مجده (٢ تس ١/ ٨-١٠)، فإنّ هذا المجيء لن يكون مع ذلك إلَّا بعد سلسلة من التقلّبات كالتي أكَّدت الرؤى اليهوديّة دائمًا حدوثها في كلامها على الأزمنة الأخيرة، وكما أنبأ بها يسوع هو بنفسه، على ما وردَ في الأناجيل (مر ١٣/ ١-٣٧ وما يوازيه في متّى ولوقا). ويمكن تلخيص سير الأحداث على هذا الوجه:
– الشيطان يعمل في هذا العالم منذ اليوم، يشهد عليه ما يعانيه المسيحيّون من الاضطهاد، ويقسم العالم قبل كلّ شيء بين المؤمنين والكفّار. غير أنّ هذا الكفر سيزداد يومًا بعد يوم، وسينتشر الكذب والظلم وسيصبح التضليل (الوهم) أسوأ خطر، فيُخشى أن يُحسب الباطل حقًّا والظلم عدلًا.
– ثمّ يأتي زمن الارتداد عن الدين، حتّى يظهر، في الوقت المحدَّد، امرؤ يقال له الملحد، وهو مسيح دجّال حقيقيّ، سيكون أشبه بتجسيد لقوى الشرّ كلّها. والمعجزات والأعاجيب التي يجريها ستُتمّ تضليل الذين لم يتقبّلوا الحقّ (٢ تس ٢/ ١٠). وستحمله كبرياؤه على أن يُظهر نفسه أنّه إلٰه ويجلس في الهيكل.
وإذا لم يكن هذا الملحد قد أتى يوم كُتبت هذه الرسالة فلأنّ أمرًا ما وشيئًا ما لا يزالان يعوقانه (٢ تس ٢/ ٦-٧)، من غير أن نعرف معرفة دقيقة مَن يُشار إليه بذلك. لا شكّ في أنّ الذين كُتبت إليهم الرسالة يفهمون هذا التلميح. فمن الواضح، على كلّ حال في نظر الكاتب، أنّ هناك مهلة غير محدودة منوطة بهذا العائق الغامض، ولا تزال تفصل بين الوقت الذي فيه يُكتب والوقت الذي يُظهر فيه الملحد قدرته الشيطانيّة علانيةً.
– ولن يظهر الربّ في حينه إلّا بعد مجيء ذلك الملحد، وعندئذٍ يُبيده. فالذين في تسالونيقي يعتقدون أنّ لهم أن يعيشوا كما لو كان يوم الربّ قد حضر. نسوا تعليم الرسول (٢ تس ٢/ ٣)، وهم في الضلال، لأنّهم أُخلدوا إلى الطمأنينة قبل وقتها. وهم يخطأون إذ يكفّون أنفسهم مؤونة كفاح الأزمنة الأخيرة واضطراباتها. إنّ المعركة ستشتدّ وطيسها قبل ظفر المسيح في النهاية، وسيكون السهر والفطنة ضروريَّين أكثر منهما في كلّ وقت. أجَل، لقد دعا الإنجيل المسيحيّين إلى مشاركة المسيح في مجده (٢ تس ٢/ ٤)، ولكنّ هناك، قبل المجدي، الاضطهاد والعذاب (٢ تس ١/ ٤-٥)، ولا يمكن تجاوزهما إلّا بالتقدّم في المحبّة والإيمان والثبات.
فقد جُعلَ لاقتراب النهاية حدود على نحوٍ واضح، بالنظر إلى ما جاء في هذا الموضوع الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي. في رأي الرسالة الثانية أنّه، لمَّا كان الناس يعيشون أوائل الأزمنة التي ذُكرت في الرؤى، وجبت مقاومة كلّ قلب فيه تسرّع للنظام القائم في الجماعة والمجتمع (الإمساك عن العمل). يجب الابتعاد عن الذين يريدون العيش في مظاهر ظفر لم يتحقّق بعد، والكفّ عن كلّ مخالطة لهم، إذا اقتضى الأمر ذلك (٢ تس ٣/ ٤). إنّ فصل المأساة البشريّة الأخير هو الذي سيبدِّل الأحوال. ولم يُبلغ حتّى اليوم الفصل قبل الأخير. وهكذا يُرى أنّ الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي هي أوّل نصّ يستعمل هذه العبارات ليطرح المسألة التي ستعود المسيحيّة إلى طرحها على مرّ الأجيال، ما دامت تفكّر في إيمانها ورجائها بأسلوب الرؤى.
إنّ كلًّا من الرسالتَيْن إلى أهل تسالونيقي شهادة رئيسيّة في شأن الكنيسة القديمة ورجائها. فخلوّهما من الشرح العقائديّ الطويل لا يجعلهما مؤلَّفَين قليلَي الشأن. فإنّهما، على ما فيهما من البساطة، تذكران جميع ما فيه الإيمان المشترك عند المسيحيّين الأوّلين، وما اختبر المُرسَلون الأوّلون، أي حبّ الله الذي يدعو، وسيادة المسيح الذي تُنتظر عودته برغبة شديدة، وعمل الروح القدس الفيّاض في كلمة البشارة وفي حياة الجماعات والتيقّن من القيامة، والثبات في الاضطهاد، والمحبّة الأخويّة التي تجعل المسيحيّين والجماعات متضامنين. فكيف لا يعود المسيحيّ كلَّ حين إلى هذا الينبوع، وكيف لا يجد فيه دائمًا أبدًا دعوة إلى أن يحيا في عصره بالرجاء نفسه وبالرغبة نفسها؟